أخيراً استيقظ "عملاق شرق إفريقيا الاقتصادي النائم" دولة تنزانيا ، ورغم أزمة وباء فيروس كورونا التي لم تنته بعد ولازالت تعتصر العالم وأفريقيا، فقد خرجت تنزانيا على العالم بأخبار جيدة وأعلنت أنها اعتباراً من أول يوليو 2020، حققت إنجازها الأبرز بأن خرجت من براثن تصنيف الدول "متدنية الدخل" لتصبح ضمن "الدول ذات الدخل المتوسط"، والجيد في الأمر أن هذا الإنجاز هو حلم تحقق قبل موعده بخمس سنوات عمّا هو مخطط له في رؤية البلاد التنموية.
وتحتل تنزانيا ، باعتبارها دولة ساحلية تحيط بها 8 دول من بينها 6 دول حبيسة أو شبه حبيسة محرومة من الشواطيء، موقعاً جغرافياً متميزاً يجعلها مؤهلة لكي تصبح نقطة التقاء وبؤرة اقتصادية وتجارية إقليمية نشطة.
ويقول خبير التنمية الدولية والبروفيسور في كلية "سينتنيال" الكندية، ديفيد هيمبارا - في مقال نشرته مجلة (أفريكا ريبورت) - إن تنزانيا تتمتع بموارد متجددة وغير متجددة غنية ومتنوعة ليست قادرة على تغذية التحول الاقتصادي للبلاد فحسب بل لتفيض بها على جيرانها أيضاً.
وأضاف هيمبارا أن الحديث عن أفريقيا يتنازعه نموذجان بوجه عام: إما أفريقيا الحالة الميؤوس منها، وإما أفريقيا الصاعدة، وما يثير الشكوك وما نفتقر إليه على الدوام هو مدى توافر تحليلات دقيقة للتقدم الطفيف الذي يتم على أرض الواقع في القارة.
واستطرد قائلاً "إن حالة تنزانيا تكشف لنا أنه لا يمكن القول على أية دولة إن قدرها المحتوم أن تبقى متخلفة" .. لافتا إلى أن تنزانيا عملاق اقتصادي أفريقي ظل في سبات طويل، رغم أنه يتمتع بخصائص فريدة وهبات سخية على صعيد موقعها الاستراتيجية، ومواردها المتنوعة، والاستقرار السياسي الذي اعتبره أمراً حيوياً للغاية لما تمتعت به البلاد على مدار عقود منذ استقلالها في الستينيات من القرن الماضي، فلم تشهد أي صراعات أو نزاعات أثرت عليها أو جيرانها من البلدان المحيطة. وقد شرع المعنيون والمتخصصون، في عهد الرئيس الأسبق بنجامين مكابا، في تشكيل وصياغة رؤية التنمية للبلاد، وعكف فريق من الخبراء في عام 1995 على تلك الرؤية، وكان هذا الفريق هو حجر الزاوية الذي عمل تحت إشراف ورعاية "مجلس التخطيط"، وتعددت الإسهامات واتخذت أشكالاً مختلفة للوصول إلى رؤية التنمية من خلال منتديات، ولقاءات، وحوارات، واجتماعات شملت مختلف الجماعات والتيارات الاجتماعية. وانخرطت وسائل الإعلام في المهمة عبر الصحف والإذاعة والتلفاز، واستقر الهدف الرئيسي على تحويل تنزانيا من دولة منخفضة الدخل إلى دولة متوسطة الدخل بحلول عام 2025، وحرص الرئيسان السابق جاكايا كيكويتي، والحالي بومبي ماجفولي كلاهما، على اقتفاء أثر سلفهما مكابا في تنفيذ الرؤية التنموية دون كلل أو تبديل. وحصدت تنزانيا النتائج، على حد قول البروفيسور هيمبارا، فقد حققت الإدارة الاقتصادية المتماسكة والراسخة نمواً سنوياً تراوح بين 6 و8 % خلال العقد الماضي، وكنتيجة لذلك قفز الناتج المحلي الإجمالي بأكثر من الضعف من 29 مليار دولار في عام 2009 ليصل إلى 63 مليار دولار في عام 2019 ، وأصبحت تنزانيا واحدة من بين أكبر خمس دول منتجة للذهب في أفريقيا. وبات التصنيع قوة محركة للاقتصاد بعد سنوات من التراجع، وها هي تنزانيا تنتج حاليا الأسمنت والمنسوجات، والسيراميك، والأدوات، والآلات البسيطة ، ويعود جانب من النجاح الذي تحقق في قطاعي المناجم والتصنيع إلى جذب الاستثمارات الأجنبية التي بلغت ما لا يقل عن مليار دولار سنويا في السنوات الخمس الأخيرة. وحسَّنت تنزانيا عمليات تسليم السلع والبضائع عبر موانئها إلى البلدان الأخرى مثل بوروندي ، و رواندا ، وجمهورية الكونغو الديمقراطية، وأوغندا، وزامبيا، مما زاد من إيرادات الدولة بوجه عام ، وعرفت قطاعات أخرى كالخدمات والبنوك والإنشاءات مستويات نمو ملفتة، وغدت العاصمة التجارية دار السلام هي المدينة الأكبر في شرق أفريقيا. ويعاود البروفيسور هيمبارا الحديث عن الاستقرار السياسي باعتباره الدرس الأهم الذي تقدمه تنزانيا لبقية بلدان القارة، لما ساهم به من تحويل اقتصاد البلاد من شبه اشتراكي إلى اقتصاد سوق. ويبقى قطاع الزراعة هو نقطة الضعف التي يشير إليها الخبير هيمبارا في مقاله قائلاً "القطاع الزراعي الذي لا يزال متخلفاً إلى حد كبير، يعتمد عليه مباشرة حوالي 55 % من السكان، فثلاثة أرباع معدلات الفقر تنبع مباشرة من قطاع الزراعة، و15 % مرتبطة بشكل غير مباشر بالقطاع نفسه عبر سلاسل القيمة سواء كالعاملين في تجارة ونقل وتشغيل المواد الزراعية". وحث الخبير التنموي، الحكومة التنزانية على ضرورة أن تحظى الزراعة بأهمية جوهرية في المرحلة المقبلة من خلال إجراء إصلاحات هيكيلة واسعة لنقل تنزانيا إلى فضاء جديد من الإنجازات أكثر اتساعاً بعدما انطلقت من سُباتها إلى عالم العمالقة في القارة السمراء.